Linz-arab.com

الصفحه الرئسيه اضغط هنا

عدم اكتراث المكسيكيين بالوقت يحير الزائرين

تعني كلمة "أهوريتا" باللغة الأسبانية حرفيا "في الحال"، لكن إدراك المعنى الحقيقي لهذه الكلمة لا يتطلب إتقان اللغة الأسبانية بقدر ما يتطلب الإلمام بخبايا الثقافة المكسيكية.

عندما وطأت قدماي الأراضي المكسيكية للمرة الأولى، كنت أجيد اللغة الأسبانية نسبيا. ورغم أنني لم أكن طليقة اللسان، كنت أستطيع التحدث مع الآخرين.

ولهذا عندما سألت بائع المثلجات في قلب المدينة، متى يتوقع وصول الأيس كريم بالشيكولاتة إلى المنطقة، أجابني: "أهوريتا"، وهي كلمة في الأسبانية تعني حرفيا "في الحال". أخذت كلامه على محمل الجد، وصدقت أن طلبي أوشك على الوصول.

ثم جلست على مقربة من المحل وانتظرت، وشعرت أنه من غير اللائق أن أغادر، وفقا للتقاليد التي نشأت عليها في بريطانيا. ومضت نصف ساعة، ولم يصل شيء، ومشيت مرة أخرى إلى المحل على استحياء، وسألت البائع عن الأيس كريم، فأجابني: "أهوريتا"، لكنه هذه المرة أطال في نطق حرف الياء. وارتسمت على وجهه علامات الحيرة الممزوجة بشيء من الإحراج.

وصرت حائرة. فلم أكن أرغب في الانتظار لفترة أطول، ولكنني شعرت أنه ليس من الأدب أن أغادر، لا سيما إذا كان الأيس كريم الذي طلبه لي البائع خصيصا أوشك على الوصول

وأخيرا، بعد أن انتظرت لفترة طويلة حتى شعرت برغبة في تناول العشاء، تلبدت السماء بالغيوم، وهرعت إلى أقرب حافلة لأعود إلى المنزل.

وفي طريقي إلى الحافلة، نظرت للبائع وأشرت إلى السماء ليعرف أنني لم أستطع الانتظار لفترة أطول من ذلك، وأن ذلك خارج عن إرادتي. ومرة أخرى كانت نظرات البائع تملؤها الحيرة.

وعندما استحضرت الحوار الذي دار بيني وبين البائع، وأنا جالسة في الحافلة أراقب زخات المطر على النافذة، قلت لنفسي بغضب إن ذلك البائع كاذب.

وبعد سنوات طوال، كدت أنسى هذا الحدث، إلى أن عدت لأعيش في المكسيك. وأدركت حينها أن كشف غموض ما سميته "سرّ أهوريتا" لا يتطلب إتقان اللغة الأسبانية بقدر ما يتطلب الإلمام بدقائق الثقافة المكسيكية.

فعندما يقول لك المكسيكيون "أهوريتا"، لا يقصدون في الغالب المعني الحرفي للكلمة، إذ يتغير معنى الكلمة تماما بحسب السياق.

وتقول كونسبسيون كومباني، أستاذة اللغويات والباحثة المخضرمة في الجامعة الوطنية المكسيكية المستقلة (يونام) في العاصمة المكسيكية ميكسيكو سيتي: "عندما يقول لك المكسيكي أهوريتا، فقد يعني غدا أو في غضون ساعة أو بعد خمس سنوات، أو ربما لا ينوي أن يفعل هذا الأمر على الإطلاق".

وفي بعض السياقات، رغم أن ترجمة كلمة "أهوريتا" تعني على الفور، فإنها إذا جاءت قبل كلمة "ليغو" (سأحضر) فسوف تعني "سأحضر بعد حين"، بينما إذا جاءت قبل كلمة "ريغيرسو"( سأعود) فتعني "سأعود في وقت غير معلوم".

كما أنها تُستخدم لرفض عرض من شخص آخر بطريقة مهذبة. ورغم أنني أمضيت نحو سبع سنوات في المكسيك، لا تزال هذه الكلمة تجلعني في حيرة من أمري عندما أستضيف بعض الأصدقاء، وأجد نفسي مترددة، لا أعرف هل أحضر للضيف ما عرضته عليه أم لا.

واشتهر المكسيكيون، بين الشعوب الناطقة بالأسبانية، بالإكثار من استخدام مقاطع التصغير. وبينما يضاف مقطع التصغير "أيتا" إلى ظرف الزمان "أهور" الذي يعني الآن، في أغلب البلدان الناطقة بالأسبانية، لتأكيد معنى الكلمة وللإشارة إلى قرب حدوث الشيء، كأن تقول "في التو واللحظة"، فإن هذه القاعدة لا تنطبق في المكسيك.

وتقول الخبيرة اللغوية كومباني إن المكسيكيين يستخدمون هذا الشكل من أشكال التصغير لكسر الحواجز بين المتحدث والمستمع ورفع الكلفة. ولهذا، فإن استخدامهم لكلمة "أهوريتا"، يدل على التمهل وليس العجلة، وهذا الفرق بين الدلالتين هو مصدر اللبس لدى الأجانب.

ولعل التغييرات الطفيفة في نطق الكلمة تؤثر على طريقة تفسيرها. وتقول كومباني: "إذا أطال المتحدث نطق حرف الياء في كلمة 'أهوريتا'، فهو يعني أنه يتوقع أن يستغرق الأمر وقتا طويلا"، وهذا يعني أنه كلما طال نطق حرف الياء، زاد الوقت المتوقع للانتظار.

وبالمثل، تضيف كومباني: "إذا أردت أن تقول إنك تقصد حقا كلمة في الحال، فقد تكرر المقطع الأخير 'إيتا' عدة مرات"، في إشارة إلى أن تكرار المقطع الأخير سريعا وبحزم يدل على أن الشيء يجب أن يحدث دون إبطاء.

وتضيف كومباني أنها إذا تجاوزت الوقت المحدد للمحاضرة في المكسيك، سيشعر المكسيكيون بالامتنان "كأني أقدم لهم هدية"، على حد وصفها. في حين أن هذا لو حدث في المملكة المتحدة أو في الولايات المتحدة، "سيغادر الحاضرون المكان، واحد بعد الآخر، وسيشعرون أنني أهدر وقتهم".

وعندما يخطط أصدقائي المكسيكيون لإقامة حفل في السابعة مساء، يضعون في اعتبارهم أن المدعويين لن يأتوا إلى الحفل قبل الثامنة والنصف مساء، في حين ينظم الغرباء عن المكسيك، الذين انتقلوا إليها حديثا، حفلاتهم ويوجهون الدعوات للناس للحضور الساعة الثامنة والنصف، ولا يعلمون أن هذا يعني أن أكثر الناس سيحضرون في الساعة العاشرة مساء.

وقد سمعت الكثير من الأجانب يشكون من تهاون المكسيكيين في المواعيد، لأن التأخير في نظر الأجانب ينم عن سوء السلوك والاستهانة بالآخر.

وينبع احترام الأجانب للمواعيد من الاعتقاد الراسخ أن "الوقت من ذهب"، أي أن الوقت هو مورد قيّم محدود ينبغي الحفاظ عليه وعدم إهداره. في حين يستخف المكسيكيون إلى حد ما بقيمة الوقت، إذ ينظرون للوقت على أنه شيء مرن وطيّع، وفي الوقت نفسه شيءٌ لا يمكن التحكم فيه.

ويساهم مفهوم "أهوريتا" في تخفيف الالتزامات، ويفسح المجال للتعامل بعفوية وبساطة، لأنك لا تدري ما قد يحدث ما بين الآن و"أهوريتا".

إلا أن بعض الوافدين في المكسيك لم يستطيعوا التكيف مع هذا الأسلوب الفضفاض في تقدير الوقت. وقد توصلت إليزابيث واتسون، التي انتقلت من الولايات المتحدة إلى المكسيك، إلى طريقة جديدة في التعامل مع مفهوم "أهوريتا".

وتقول واتسون: "حينما يقول لي رئيسي في العمل 'أهوريتا'، أجيب 'متي تحديدا؟'. فأنا لا أتحمل التعامل بهذا المفهوم المبهم بأن الأعمال ستُنجر في وقت ما مستقبلا".

أما بالنسبة لي، فلم أفهم سر كلمة "أهوريتا"، أو أدرك أسباب عدم وصول الآيس كريم، إلا بعدما عايشت الشعب المكسيكي وتعرفت على جوانب الحياة المكسيكية التي تسير بوتيرة أبطأ بكثير من الحياة في لندن.

ومنذ أن انتقلت للعيش في المكسيك، تغيرت نظرتي كليا للوقت. ولم أعد أكترث كثيرا للدقة في المواعيد، ورغم أنني ما زلت أواظب بشكل عام على الحضور في الموعد المحدد - فمن الصعب التخلي عن العادات القديمة - إلا أنني إذا تأخرت عن الموعد، لا أشعر بالقلق والتوتر.

وبينما ما زلت أشعر بالضيق والضجر عندما يتأخر عامل السباكة، الذي قد يصل بعد خمس دقائق، أو خمس ساعات، فأنا أعرف أنني سأجني في النهاية ثمرة الصبر والانتظار، والمتمثلة في الشعور بالتحرر من قيود الوقت، وأستمتع بالتعامل مع الآخرين بعفوية وبلا قيود.

والمفارقة أن مفهوم "أهوريتا" جعلني أستمتع باللحظة الراهنة أكثر من أي وقت مضى.