Linz-arab.com

الصفحه الرئسيه اضغط هنا

 

رحيل بلا عودة

ما أسرع ماتجرى بنا السنوات.. يسرقنا الزمن دون أن نشعر إلا وملامحنا قد تغيرت . تظهر شعرة بيضاء فى الرأس

وتجعيدة تحت العين وكرمشة فى الجلد عند الرقبة . لانشعر إلا ونحن قد تغيرنا .. حتى الضحكةالتى كانت رنانة فى

 الماضى.. أصبحت كأنها همسة بل عبئا آخر يضاف إلى أعباء الحياة . قد هرمنا.. قد هرمنا كان ذلك منذ أكثر من

 أربعين سنه ...أيام الجامعة أيام الأحلإم والدهشة والحب ..كان زملائي في كلية التجارة يسمونني الفارس الآسود

 فقد كانت ملإبسي كلها سوداء حتي رباط العنق كان أسود وكنت قليل الحضور الي الكلية لانني تعودت الخروج مع

 شلة من الأصدقاء نجلس طوال اليوم بعد أن نجمع قروشنا لنشرب الشاي في قهوة كانت المقر الدائم لنا ,نتحدث في

 الفن والسياسة والحب, أو نذهب لمشاهدة فيلم فئ احدئ دور العرض في شارع عماد الدين.. وكل عدة أيام يفاجأ

 زملائئ بوجودئ بينهم فئ مدرج الكلية ,أنقل محاضرة ,أو أتحدى أستاذ فيطردنى من المدرج كنت سعيدا بشهرتى

وخصوصا بين زميلاتى..نعم عشت أحلى سنوات العمر فى الجامعة ولكنى فى النهاية تعلمت.. لم أحب السياسة

 ولكنى مارستها وكتبت فيها . وإنتهت أيام الجامعة الصغيرة وفى قلبى أحلام ملونة وفى يدى بكالوريوس العلوم

المالية والتجارية . عملت سنتين صحفى حوادث ولكنى كنت أريد وبسرعة أن أكون رئيس تحرير. وسافرت إلى

 النمسا.. وفى الطائرة إعتقدت أنى تركت التخلف ,وتوجهت حيث تكون المدنية إلى أوربا التقدم ..والتكنولوجيا

 الحديثة ,وصحبت معى أحلامى ..السيارة ..والفيلا..والزوجة الحسناء الأجنبية ذات الشعر الذهبى الناعم

.. وتراجعت أحلامى عند إستلامى أول عمل لى فى مدينة السحر.. والموسيقى.. والجمال مدينة فيينا وليالى الأنس

فيها حيث تسلمت لباس العمل وهو جاكت أصفر رائع وحزمة من الجرائد , كان عملى من الأهمية ,لدرجة أنى

وزملائى كنا نستطيع التأثير على المجتمع النمساوى بأكمله ..وإلتحقت بكلية التجارة بجانب عملى كما إستطعت

 الحصول على سكن مريح ,وهو عبارة عن فيلا فى الدور الخامس فى الحى الثانى, بدون مصعد عبارة عن حجرتين

..وكان يشاركنى فى هذا السكن الرائع ,بعض الزملاء وهم سبعة عشر زميلا فقط ..كنا ندفع إيجار السكن ,بالإضافة

 إلى إيجار خاص للتدفئة ( البطانية ) وقاسمنى فى السرير الصغير زميل عزيز وهو الدكتور عزت حيث كنا نستطيع

 النوم على جانب واحد فقط وإستمرت علاقتى بالدكتور عزت بعد ذلك أكثر من ثلاثين عاما وإفترقنا.. حيث إضطر

للسفر إلى مدينة سالزبورج ,للعمل هناك وبقيت أنا فى مدينة فيينا ,لأحقق باقى أحلامى وطموحاتى

ومنذ 6 أشهر تقريبا ,قمت بزيارة مقرالنادى المصرى, لمصافحة زملائى وأصدقائى القدامى الذين لم أعد ألتقى بهم

 إلا فى المناسبات بعد أن إنشغل كل منا فى مسئولياته وعائلته ومشاكل الحياة التى لن تنتهى أبدا .. وكان أول من

 إلتقيت به أحد أصدقاء الزمن الجميل ..هو الدكتور عزت بعد عودته من سالزبورج ,لكننا أصبحنا لانلتقى إلا إذا

وافق الزمن ,أو إذا أهدتنا الصدفة لقاء جديدا ,مثلما حدث هذه المرة فى النادى المصرى . أسرع صديقى إلى عناقى

 وتبادلنا القبلات ..وكعادته إبتسم فى وجهى قبل أن نبدأ الحوار, وأردت أن أداعبه ..ألم تتعب من إبتسامتك كل هذه

 السنوات ..وأجابنى بسرعة ..ياسيدى ..هو حد واخد منها حاجة ..قلت له أننى أحسدك على هذا الهدوء والسلام

 الذى يملأ حياتك ، وأجابنى : يعنى أنت فاكر ان الضحكة دى معناها أن المشاكل هجرتنى ..وأن حياتى بلا هموم

ولادموع ..ولا أحزان ياسيدى ضحكة لاأقصد منها سوى مجاملة الناس ، فلا شأن لهم بما يدور فى أعماقى .. سألته

 فى لهفة ..إيه نبرة الحزن دى ياعزت ..أول مرة أسمعك تتكلم عن الأحزان والهموم..مالك ياخويا وأجابنى مش

حينفع نتكلم النهاردة ..لازم نقعد مع بعض فى هدوء عاوز أحكى معاك وأسمع منك ..وإتفقنا على ميعاد الأسبوع

 المقبل برضه فى النادى ..ورد صديقى بس تعالى بدرى شويه علشان يبقى عندنا وقت كفاية نفتح فيها أغلب الملفات .

ولم يأتى ميعاد الأسبوع المقبل ..ولن يأتى أبدا .......... مات صديق العمر الدكتور عزت قبل أن نتكلم ونفتح الملفات

التى قال لى أنه سوف يحكيها بالتفصيل . رحل الإنسان بعد أن هزمته أحلام الغربة وإلتقى به ملاك الموت فى مكتبه

 الصغير ببيته ..حوارات كثيرة يمنعها الزمن مثل هذا الحوار الذى إتفقت عليه أنا وعزت لايمكن أن يتم ، لانه إتفاق

 بشرى لم يعتمده الزمن ..ولم يوافق عليه . ماأجمل الإنسان ..يظن أنه ملك الدنيا بعقله وذكائه وماله ثم يكتشف فى

اللحظة الأخيرة مدى جهله الكبير

وهكذا إتخذ صديقى العزيز مقعده فى قطار الرحلة التى لايعود منها أحد ..وهكذا طوى الزمن صفحة جديدة كانت

 مكتوبة بيد أحد الأصدقاء ..سقطت الورقة وإنطفأ عمود جديد من أعمدة الإنارة فى شارع الصداقة .

لم يبق من عزت سوى ذكريات لايعلم مدى الدفء فبها سوى أنا وهو، لم يبقى من ثلاثين عاما إلا صوت يصافح

الأذن وقد غاب صاحبه ..وطيف يظهر ويغيب وكأنه حلم جميل سرعان ما يفيق الإنسان منه .

وداعا ياعزت .. وداعا ياصديقى ..ربما نلتقى يوما وعندئذ سوف أستمع على الفور ..بدون ميعاد أخر

 

الصحفى الكبير /سمير يوسف